• ٤ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أسحار رمضانيّة/ج14

نــزار حيدر

أسحار رمضانيّة/ج14

 (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

   انّها دعوة صريحة وواضحة للتعايش بين أبناء المجتمع الواحد، من خلال إيجاد المشتركات، للتعاون في المساحات التي يشتركون فيها، واحترام بعضهم البعض الآخر وعدم التجاوز أو الاحتراب والاقتتال في القضايا التي يختلفون عليها.

   لقد خلق الله تعالى عباده ليتعارفوا وليس ليتقاتلوا، وهو الذي خلق التنوع والاختلاف، فكيف يسعى البعض لإلغاء ذلك؟ ألم يقل رب العزة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)؟.

   السؤال هو:

   كيف يمكن تحقيق التعايش في المجتمع المتنوع والمتعدّد سواء دينياً أو اثنياً أو فكرياً أو حزبياً أو سياسياً أو قبلياً أو أي شكل آخر من أشكال التعُّدد والتنوع؟.

   اعتقد انّ هناك عدد من المقومات التي تحقق هذا التعايش، على الجميع خلقها وإيجادها على أرض الواقع إذا كانت غائبة في المجتمع، منها على سبيل المثال لا الحصر:

   أولاً: أن لا يحتكر أحدٌ الحقيقة، فلكلّ منهم جزء منها، اما إذا ادعى أحدٌ انه يمتلك الحقيقة المطلقة، عندها سيفرض نفسه على الآخرين ولو تطلّب ذلك استعمال السيف، كما يفعل اليوم الإرهابيون في العراق وفي غير العراق.

   ولنا في رسول الله (ص) خير نموذج في ذلك، إذ يقول القرآن الكريم على لسانه: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ).

   ولقد ذم الله تعالى قوماً من اليهود والنصارى اشترطوا على رسول الله (ص) إتّباعهم قبل أن يقبلوا التعايش معه فقال عزّ من قائل: (وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)، وقوله تعالى: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا) وقوله تعالى: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ) فكيف، إذن، نقبل لأنفسنا ما رفضه الله تعالى من غيرنا؟.

   ثانياً: أن لا يتجاوز أحدٌ على حقوق أحد، وانّ من حقوق المواطن على أخيه المواطن هو أن يحترم رأيه ومعتقده ورموزه وطريقة عبادته لله تعالى وشعائره، فلا يعتدي عليه إذا رآه يختلف معه في طريقة العبادة مثلاً، ولا يستهزيء برأيٍ إذا اختلف فيه معه ولا يعتدي عليه إذا لم يقتنع بما يقول، ولقد قال تعالى في ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

   انّ من حقِّ المواطن على أخيه المواطن أن يمتلك حرية التعبير في إطار أخلاقيات الاختلاف، كما انّ من حقه عليه أن يحترم كرامته ويصونها، فلقد خلق الله تعالى عباده وكرّمهم، فقال في محكم كتابه الكريم: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) فكيف يجيز أحد أن يسلب حقاً لمواطن هو من رب العزة؟.

   ثالثاً: أن يكون الحوار هو السلاح الوحيد الذي يوظّفه الجميع للإتفاق على شيء أو للاختلاف على أشياء، فلا يوظّف أحدٌ القوة والعنف والسلاح والقتل وحز الرؤوس وتفجير السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة كأدوات في الحوار، فانّ ذلك بمثابة حوار الدم وليس حوار العقل والمنطق والدليل والبرهان.

   إنّ الحوار في مثل هذه الأدوات ينسف فكرة التعايش من الأساس، لأنّه يثير الضغائن والتمييز في المجتمع، وكذلك يؤسس للظلم، وكما هو معروف فانّ"الْعَسْفَ يَعُودُ بِالْجَلاَءِ، وَالْحَيْفَ يَدْعُو إِلَى السَّيْفِ" على حد قول أمير المؤمنين (ع).

   يجب أن يكون الأصل في المجتمع هو السلام والصلح والعفو لنهيّئ الأرضية المناسبة واللازمة للتعايش، وإلى هذا المعنى أشار القرآن الكريم بقوله: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)، ولقد أوصى أمير المؤمنين (ع) مالكاً الأشتر أن لا يرفض صلحاً، وذلك بقوله في عهده المعروف "وَلاَ تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ لله فِيهِ رِضىً، فإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ، وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ، وأَمْناً لِبِلاَدِكَ" كما دعاه لإلغاء كلّ ما يمكن أن يكون سبباً لإثارة الفتنة وبثّ الفرقة وإلغاء التعايش في المجتمع، فقال (عليه السلام): "أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقدٍ، وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْر، وَتَغَابَ عَنْ كلِّ مَا لاَ يَضِحُ لَكَ، وَلاَ تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاع، فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌ، وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ".

   رابعاً: أن يؤمن الجميع بأنّ الوطن للجميع، أرضه ومياهه وخيراته وهواءه وكلّ شيء فيه، لا يحقّ لأحدٍ أن يستأثر بشيء دون الآخرين، ليشعر الجميع بأنهم شركاء في البلد وليسوا غرباء أو جاليات.

   وانّ التعايش المقصود هنا لا يقتصر على جانب دون آخر، أو بين فئتين دون بقية الفئات وشرائح المجتمع، أبداً، فنحن بحاجة إلى أن نخلق فرص التعايش في الأسرة وفي المحلة وفي المدرسة وفي الجامعة وفي الدائرة وفي محل العمل وفي الشارع، على الصعيد السياسي والفكري والحزبي والعشائري، في السلطة وخارجها، وفي المعارضة وخارجها، ليكون التعايش هو الأصل في العلاقات الاجتماعية، وبذلك سنقضي على الأزمات والتشنّجات، ونقضي على النفوس المأزومة التي تطفر إذا لم تعجبها كلمة، وتسحب خنجرها من غمده إذا سمعت رأياً يمس القائد الضرورة، وتُشعِلُ الحرائق في كلِّ مكان إذا اختلفت في أبسط وأتفه الأمور، وتحلف بالطلاق إذا لم يستجب ضيفه لدعوة كريمة على فنجان قهوة.

   وكلّ رمضان وأنتم بخير.

 

ارسال التعليق

Top